فصل: السنة الخامسة والخمسون من خلافة المستنصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 السنة الخامسة والخمسون من خلافة المستنصر

وهي سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة

فيها جهز بدر الجمالي أمير الجيوش عسكرًا من مصر مع نصير الدولة الجيوشي فنزل على صور وبها القاضي عين الدولة بن أبي عقيل فسلمها إليه لما لم يكن له به طاقة‏.‏

وفتح نصير الدولة صيداء وعكا‏.‏

وكان لتتش بهذه البلاد ذخائر وأموال فأخذها نصير الدولة المذكور ثم نزل على بعلبك وجاءه ابن ملاعب وخطب للمستنصر صاحب الترجمة أعني أنه دخل تحت طاعة المصريين‏.‏

وبعث تتش إلى آق سنقر وبوزان وقال لهما‏:‏ هذه البلاد كان لي فيها ذخائر وقد أخذت وطلب منهما النجدة فبعثا له عسكرًا‏.‏

وفيها توفي طاهر بن بركات بن إبراهيم الحافظ أبو الفضل القرشي الخشوعي‏.‏

كان عظيم الشأن من أكابر شيوخ دمشق‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ سألت ولده إبراهيم بن طاهر‏:‏ لم سميتم الخشوعيين فقال‏:‏ لأن جدنا الأعلى كان يؤم الناس فمات بالمحراب‏.‏

انتهى‏.‏

وكانت وفاة طاهر هذا بظاهر دمشق‏.‏

وكان ثقة صدوقًا عالمًا‏.‏

وفيها توفي عاصم بن الحسن بن محمد بن علي بن عاصم أبو الحسين‏.‏

وفيها توفي علي بن أبي يعلى بن زيد الشيخ أبو القاسم الدبوسي من أهل دبوسية وهي بلدة بين بخارى وسمرقند‏.‏

كان إمامًا عالمًا‏.‏

أقدمه الوزير نظام الملك إلى بغداد للتدريس في مدرسته النظامية‏.‏

وكان عارفًا بالفقه والجدل والمناظرة‏.‏

ومات ببغداد في شعبان‏.‏

وفيها توفي أحمد بن محمد بن صاعد رئيس نيسابور وعالمها وقاضيها أبو نصر النيسابوري الحنفي‏.‏

كان إمام وقته ووحيد دهره علمًا وزهدًا وفضلًا ورياسة وعفة‏.‏

انتهت إليه رياسة السادة الحنفية في زمانه‏.‏

وفيها توفي الشيخ الإمام أبو حامد أحمد بن محمد السرخسي الشجاعي البلخي الفقيه العالم المشهور‏.‏

كان إمامًا عالمًا فاضلًا سمع الحديث الكثير وتفقه وبرع في فنون‏.‏

وفيها توفي إبراهيم بن سعيد الحافظ أبو إسحاق النعماني مولاهم الحبال‏.‏

كان إمامًا فاضلًا حافظًا سمع الكثير ورحل البلاد وحدث وسمع منه خلائق ثم سكن مصر وبها كانت وفاته ومات وله تسعون سنة‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وثماني عشرة إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وتسع أصابع‏.‏

وهي سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة‏.‏

فيها نزل تتش على حصن بعلبك وبها ابن ملاعب ومع تتش آق سنقر وبوزان فقاتلوه مدة وقالوا له‏:‏ أنت توجهت إلى مصر وخطبت للمستنصر‏.‏

فلما أخافوه طلب الأمان فأعطوه فنزل من القلعة وتوجه إلى مصر وملك تتش بعلبك‏.‏

وأقام ابن ملاعب بمصر مدة وأحسن إليه المستنصر صاحب الترجمة ثم عاد إلى الشام ودبر الحيلة على حصن فامية حتى ملكه‏.‏

وفيها توفي الشيخ الإمام علي بن محمد القيرواني‏.‏

كان فقيهًا عالمًا شاعرًا‏.‏

ومن شعره - وأجاد إلى الغاية -‏:‏ الكامل ما في زمانك ماجد لو قد تأملت المشاهد فاشهد بصدق مقالتي أو لا فكذبني بواحد قلت‏:‏ لله دره‏!‏ لقد عبر عن زماننا هذا كأنه قد رآه‏.‏

وفيها توفي محمد بن محمد بن جهير الوزير أبو نصر فخر الدولة‏.‏

أصله من الموصل وبها ولد وقدم ميافارقين‏.‏

وكتب للخليفة القائم بأمر الله العباسي يسأله أن يستوزره فأجابه ثم نقم عليه ونفاه إلى الحفة ثم أعاده‏.‏

ولما تولى المقتدي الخلافة وزر له ثم عزل ونفي فمض إلى السلطان ملكشاه وانتمى إليه وفتح له ديار بكر وأتحفه بالأموال‏.‏

ثم تغير عليه السلطان فاستأذن في الإقامة بالموصل فأذن له فتوجه إليه فلم يقم به إلا اليسير ومرض ومات ودفن بالموصل‏.‏

وكان سخيًا كريمًا شجاعًا مدبرًا عارفًا‏.‏

وفيها توفي الشيخ المسند أبو الحسين عاصم بن الحسن العاصمي الكرخي‏.‏

كان إمامًا محدثًا سمع الكثير وروى عنه خلق كثير وكان أديبًا شاعرًا ثقة‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو نصر عبد العزيز بن محمد بن علي الترياقي‏.‏

مات بمدينة هراة وله أربع وتسعون سنة‏.‏

وكان عالمًا محدثًا فقيهًا فاضلًا‏.‏

وفيها توفي الشيخ الإمام العارف بالله أبو بكر محمد بن إسماعيل التفليسي الصوفي النيسابوري‏.‏

مات في شوال بنيسابور وكان إمامًا محدثًا فقيهًا صوفيًا معدودًا من أعيان الصوفية‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وست وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا سواء‏.‏

السنة السابعة والخمسون من خلافة المستنصر وهي سنة أربع وثمانين وأربعمائة‏.‏

فيها في صفر كتب الوزير أبو شجاع إلى الخليفة يعرفه باستطالة أهل الذمة على المسلمين وأن الواجب تمييزهم عنهم فأمره الخليفة أن يفعل مايراه‏.‏

فألزمهم الوزير لبس الغيار والزنانير وتعليق الدراهم الرصاص في أعناقهم مكتوب على المراهم ذمي وتجعل هذه الدراهم أيضًا في أعناق نسائهم في الحمامات ليعرفن بها وأن يلبسن الخفاف فردًا أسود وفردًا أحمر وجلجلًا في أرجلهن‏.‏

فذلوا وانقمعوا بذلك‏.‏

وأسلم حينئذ أبو سعد بن الموصلايا كاتب الإنشاء للخليفة وابن أخته أبو نصر هبة الله‏.‏

وفيها في جمادى الأولى قدم أبو حامد الطوسي الغزالي إلى بغداد مدرسًا بالنظامية ومعه توقيع نظام الملك‏.‏

وفيها وقع بالشام زلزلة عظيمة وواقع ذلك تشرين الأول وخرج الناس من دورهم هاربين وانهدم معظم إنطاكية ووقع من سورها نحو من تسعين برجًا‏.‏

وفيها نزل آق سنقر على فامية فأخذها من ابن ملاعب‏.‏

وفيها في شهر رمضان خرج توقيع الخليفة المقتدي بالله العباسي بعزل الوزير أبي شجاع من الوزار وكان له أسباب منها أن نظام الملك وزير السلطان ملكشاه السلجوقي كان يسعى عليه لابنه‏.‏

فلما أتاه الخبر بعزله قام من الديوان ولم يتأثر وأنشد‏:‏ الوافر تولاها وليس له عدو وفارقها وليس له صديق وفيها حاصر تتش أخو السلطان ملكشاه طرابلس ومعه آق سنقر وبوزان وبها قاضيها وهو صاحبها واسمه جلال الملك بن عمار ونصب عليها المجانيق‏.‏

فاحتج عليهم ابن عمار بأن معه منشور السلطان ملكشاه بإقراره على طرابلس فلم يقبل منه تتش ذلك وتوقف آق سنقر عن قتاله‏.‏

فقال له تتش‏:‏ أنت تبع لي فكيف تخالفني فقال‏:‏ أنا تبع لك إلا في عصيان السلطان‏.‏

فغضب تاج الدولة تتش ورجع إلى دمشق ومضى آق سنقر إلى حلب ومضى بوزان إلى الرهاء أعني كل واحد إلى بلده‏.‏

وفيها ملك يوسف بن تاشفين الأندلس ونفي ابن عباد عنها‏.‏

وفيها توفي محمد بن أحمد بن علي بن حامد أبو نصر المروزي‏.‏

كان إمامًا في القراءات وصنف فيها التصانيف وانتهت إليه الرياسة فيها‏.‏

وكانت وفاته في ذي القعدة‏.‏

وفيها توفي محمد بن علي بن محمد أبو عبد الله التنوخي الحلبي ويعرف بابن العظيمي‏.‏

كان إمامًا شاعرًا فصيحًا بليغًا‏.‏

ومن شعره قوله‏:‏ البسيط يلقى العدا بجنان ليس يرعبه خوض الحمام ومتن ليس ينقصم فالبيض تكسر والأوداج دامية والخيل تعرم والأبطال تلتطم والنقع غيم ووقع المرهفات به لمع البوارق والغيث الملث دم الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا واثنتان وعشرون إصبعًا‏.‏

السنة الثامنة والخمسون من خلافة المستنصر وهي سنة خمس وثمانين وأربعمائة‏.‏

فيها ورد الأمير تاج الدولة تتش على السلطان ملكشاه شاكيًا من آق سنقر فلم يلتفت السلطان إليه فترك ابنه عند السلطان وعاد إلى دمشق‏.‏

وفيها في يوم الاثنين منتصف شهر ربيع الأول وقت الظهر وهو السادس من نيسان اقترن زحل والمريخ في برج السرطان وذكر أهل صناعة النجوم أن هذا القرآن لم يحدث مثله في هذا البرج منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه السنة‏.‏

قال صاحب مرآة الزمان‏:‏ وكان تأثير هذا القرآن هلاك ملكشاه السلجوقي سيد الملوك ومقتل نظام الملك سيد الوزراء‏.‏

انتهى‏.‏

وفيها في شهر رمضان توجه السلطان ملكشاه من أصبهان إلى بغداد بنية غير مرضية في حق الخليفة المقتدي بالله وعزم على تغييره وكان معه وزيره نظام الملك فقتل في شهر رمضان في الطريق على ما سيأتي ذكره إن شاء الله‏.‏

ووصل ملكشاه إلى بغداد في ثامن عشر شهر رمضان‏.‏

فأول ما وصل بعث يقول للخليفة‏:‏ لا بد أن تترك لي بغداد وتذهب إلى أي بلد شئت‏.‏

فانزعج الخليفة وبعث إليه يقول‏:‏ أمهلني شهرًا فقال‏:‏ ولا ساعة‏.‏

فأرسل الخليفة إلى تاج الملك أبي الغنائم وكان السلطان ملكشاه استوزره بعد قتل نظام الملك فقال‏:‏ سله بأن يؤخرنا عشرة أيام‏.‏

فدخل تاج الملك على السلطان وقال له‏:‏ لو أن بعض العوام أراد أن ينتقل من دار إلى دار لم يقدر على النقلة في أقل من عشرة أيام فكيف بالخليفة‏!‏ فأمر السلطان له بالمهلة عشرة أيام‏.‏

ثم اشتغل بنفسه من مرض حصل له ومات منه بعد أيام‏.‏

ذكر وفاته‏:‏ هو السلطان جلال الدولة أبو الفتح ملكشاه بن ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقمان التركي السلجوقي‏.‏

تسلطن بعد موت أبيه بوصية منه إليه في سنة خمس وستين وأربعمائة وجعل وزيره نظام الملك وزيرًا له ومتكلمًا في الدولة وفرق البلاد على أولاده‏!‏ وجعل مرجعهم إلى ملكشاه هذا‏.‏

فلما تسلطن ملكشاه خرج عليه عمه قاورد بك صاحب كرمان فواقعه فأخذه ملكشاه أسيرًا‏.‏

فلفا مثل بين يدي ملكشاه قال‏:‏ أمراؤك كاتبوني وأظهر مكاتبات‏.‏

فأخذها ملكشاه وأعطاها للوزير نظام الملك فأخذها نظام الملك وألقاها في منقل نار كان بين يدي ملكشاه فاحترقت‏.‏

فسكنت قلوب الأمراء وبذلوا الطاعة وثبت ملكه بهذه الفعلة‏.‏

ثم خنق عمه قاورد بك المذكور بوتر وتم له الأمر‏.‏

وملك من الأقاليم ما لم يملكه أحد من السلاطين فكان في مملكته جميع بلاد ما وراء النهر وبلاد الهياطلة وباب الأبواب وبلاد الروم والجزيرة والشام حتى إنه ملك من مدينة كاشغر وهي أقصى مدينة للترك إلى بيت المقدس طولًا ومن القسطنطينية إلى بلاد الخزر وبحر الهند عرضًا‏.‏

وكان من أحسن الملوك سيرة ولذلك كان يلقب بالسلطان العادل‏.‏

وكان منصورًا في حروبه مغرى بالعمائر حفر الأنهار وعمر الأسوار والقناطر وعمر جامع السلطان ببغداد ولم يتمه وأبطل المكوس في جميع بلاده وصنع بطريق مكة مصانع الماء غرم عليها أموالًا كثيرة‏.‏

وكان مغرى بالصيد حتى إنه صاد مرة في حلقة واحدة عشرة آلاف صيد وقد تقدم ذكر ذلك‏.‏

وكانت وفاته في شوال‏.‏

قيل‏:‏ إنه سم في خلال تخلل به‏.‏

ولم يشهد وفاته أحد من رجال الدولة ولا عمل له عزاء‏.‏

وحمل في تابوت إلى أصبهان فدفن بها‏.‏

وقام في السلطنة بعده أكبر أولاده بركياروق ولقب بركن الدولة‏.‏

وخالفه عمه ووقع له معه وقائع‏.‏

وفيها توفي الوزير نظام الملك وزير السلطان ملكشاه السلجوقي المقدم ذكره‏.‏

واسمه الحسن بن إسحاق بن العباس الوزير أبو علي الطوسي‏.‏

كان من أولاد الدهاقين بناحية بيهق وكان فقيرًا مشغولًا بسماع الحديث ثم بعد حين اتصل بداود بن ميكائيل السلجوقي فأخذه بيده وسلمه إلى ولده ألب أرسلان وقال له‏:‏ يا محمد هذا حسن الطوسي اتخذه والدًا ولا تخالفه‏.‏

فلما وصل الملك إلى ألب أرسلان استوزره فدبر ملكه عشر سنين‏.‏

ومات ألب أرسلان فازدحم أولاده على الملك فقام بأمر ملكشاه حتى تم أمره وتسلطن‏.‏

ولما دخل نظام الملك على الخليفة المقتدي أمره بالجلوس وقال له‏:‏ يا حسن رضي الله عنك لرضا أمير المؤمنين عنك‏.‏

وكان نظام الملك عالي الهمة وافر العقل عارفًا بتدبير الأمور محبًا للعلماء والصلحاء على ظلم وجور كان عنده على عادة الوزراء‏.‏

ولما خرج من أصبهان بعد مخدومه ملكشاه قاصدًا بغداد نزل قرية من قرى نهاوند مكان الوقعة التي كانت في زمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال‏:‏ هذا موضع مبارك قتل فيه جماعة من الصحابة طوبى لمن كان منهم‏.‏

وكان جالسًا والأمراء بين يديه وكان صائمًا فإنه كان يوم الخميس فقدم الأكل فأكل الناس ثم ركب محفته إلى خيمة النساء وكان به مرض النقرس فاعترضه صبي ديلمي في زفي الصوفية وبيده قصة فدعا له وسأله أن يناوله إياها من يده إلى يده فقال‏:‏ هات فمد يده ليأخذها فضربه بسكين في فؤاده فحمل إلى مضربه ومات فهرب الديلمي فعثر بطنب خيمة فقطع قطعا‏.‏

وكانت وزارة نظام الملك لبني سلجوق أربعًا وثلاثين سنة - وقيل أربعين سنة - وكان عمره ستًا وسبعين سنة‏.‏

ومن شعره‏:‏ البسيط بعد الثمانين ليس قوه لهفي على قوة الصبوه وفيها توفي مالك بن أحمد الإمام أبو عبد الله البانياسي ثم البغدادي المعروف بالفراء في جمادى الآخرة شهيدًا في الحريق‏.‏

وكان معدودًا من العلماء الفضلاء‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وست أصابع‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وإحدى عشرة إصبعًا‏.‏

وأوفى في سابع توت ونقص فيه أيضًا‏.‏

السنة التاسعة والخمسون من خلافة المستنصر وهي سنة ست وثمانين وأربعمائة‏.‏

فيها خطب تاج الدولة تتش السلجوقي لنفسه بعد موت أخيه ملكشاه وأرسل إلى الخليفة بأن يخطب له ويوعده فما التفت إليه في الجواب غير أنه أرسل يقول له‏:‏ إنما تصلح للخطبة إذا خلصت الدنيا بحكمك والخزائن التي بأصبهان معك وتكون صاحب الشرق وخراسان ولم يبق من أولاد أخيك ملكشاه من يخالفك وأما في هذا الحال فلا سبيل إلى ما التمسته‏.‏

فلما وقف تتش على ذلك سار إلى الموصل وبها إبراهيم بن قريش فخرج إليه في بني عقيل والتقوا معه فقتل إبراهيم وقتل عليه أعيان بني عقيل‏.‏

وكان علي بن مسلم بن قريش عند بركياروق بن وفيها فتح عسكر مصر صور وحمل صاحبها إلى مصر ومعه أصحابه‏.‏

فضرب بدر الجمالي رقاب الجميع وقطع على أهل صور ستين ألف دينار عقوبة لهم‏.‏

وفيها بطل مسير الحاج من العراق خوفًا عليهم وسار حجاج دمشق ولم يوصلوا إلى أمير مكة ما يرضيه‏.‏

فلما رحلوا خرج ونهبهم وعاد من سلم منهم على أقبح حال وتخطفهم العرب في الطريق‏.‏

وفيها توفي عبد القادر بن عبد الكريم بن الحسين أبو البركات‏.‏

كان شيخًا صالحًا خطب بدمشق لبني العباس وللمصريين وأنشد لبعضهم‏:‏ الطويل يعد رفيع القوم من كان عاقلًا وإن لم يكن في قومه بحسيب فإن حل أرضًا عاش فيها بعقله ما عاقل في بلدة بغريب وفيها توفي علي بن أحمد بن يوسف بن جعفر بن عرفة الحافظ الفقيه الهكاري‏.‏

كان ينعت بشيخ الإسلام - والهكارية‏:‏ جبال فوق الموصل فيها قرى وبنى - وكنيته أبو الحسن‏.‏

كان إمامًا عالمًا فقيهًا سمع الحديث ورواه وبنى أربطة وقدم بغداد‏.‏

وكان صالحًا متعبدًا شيخ بلاده في التصوف وكان من أهل السنة والجماعة‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ السنة الستون من خلافة المستنصر وهي سنة سبع وثمانين وأربعمائة‏.‏

وهي التي مات فيها المستنصر معد صاحب الترجمة حسب ما تقدم ذكره‏.‏

وفيها أيضًا توفي الخليفة المقتدي بالله العباسي وبدر الجمالي أمير الجيوش بمصر وآق سنقر صاحب حلب قتيلًا وبوزان بالشام وأمير مكة‏.‏

وتسمى هذه السنة سنة موت الخلفاء والأمراء فعدة الناس هذا كله من القرآن المقدم ذكره في سنة خمس وثمانين وأربعمائة‏.‏

ويأتي كل واحد من هؤلاء على حدته في هذه السنة‏.‏

وفيها كانت زلزلة عظيمة ببغداد بين العشاءين في المحرم‏.‏

وفيها حدث فتن وحروب وغلاء بسائر الأقاليم‏.‏

وفيها توفي الخليفة أمير المؤمنين أبو القاسم المقتدي بالله عبد الله ابن الأمير ذخيرة اللين أبي العباس محمد ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله ابن الخليفة القادر بأمر الله أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة جعفر المقتدر ابن الخليفة المعتضد بالله أحمد ابن الأمير طلحة الموفق ابن الخليفة المتوكل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة المهدي بالله محمد ابن الخليفة أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي الهاشمي‏.‏

بويع بالخلافة بعد موت جده القائم بأمر الله في ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة وهو ابن تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر‏.‏

وكان توفي أبوه الذخيرة محمد والمقتدي هذا حمل في بطن أمه وكان اسم أمه أرجوان - وقيل قرة العين - وكانت أرمينية فولدته بعد موت أبيه بستة أشهر‏.‏

وكان المقتدي من رجال بني العباس له همة عالية وشجاعة وافرة وظهرت في أيامه خيرات وخطب له في الشرق بأسره وما وراء النهر والهند وغزنة والصين والجزيرة والشام واليمن وعمرت في أيامه بغداد واسترجع المسلمون الرهاء وإنطاكية‏.‏

ومات فجاة في ليلة السبت خامس عشر المحرم وكان عمره ثمانيًا وثلاثين سنة وثمانية أشهر ويومين‏.‏

وتخلف بعده ابنه أبو العباس أحمد‏.‏

وكانت خلافة المقتدي تسع عشرة سنة وثمانية أشهر‏.‏

وفيها توفي الشريف أمير مكة محمد بن أبي هاشم‏.‏

كان ظالمًا جبارًا فاتكًا سفاكًا للدماء مسرفًا رافضيًا سبابًا خبيثًا متلونًا تارة مع الخلفاء العباسيين وتارة مع المصريين وكان يقتل الحجاج ويأخذ أموالهم‏.‏

وهلك بمكة وقد ناهز السبعين‏.‏

وفرح المسلمون وأهل مكة بموته وقام بعده ابنه هاشم‏.‏

وفيها توفي الحسن بن أسد أبو نصر الفارقي الشاعر المشهور‏.‏

كان فصيحًا فاضلا عارفًا باللغة والأدب وهو الذي سلم ميافارقين إلى منصور بن مروان‏.‏

فلما دخلها تتش السلجوقي اختفى ثم ظهر لما عاد تتش ووقف بين يديه وأنشده قصيدة منها‏:‏ البسيط‏.‏

واستحلبت حلب جفني فانهملا وبشرتني بحر القتل حران فقال تتش‏:‏ من هذا فقيل له‏:‏ هذا الفارقي فأمر بضرب عنقه من وقته‏.‏

فكان قوله‏:‏ وبشرتني بحر القتل حران فألا عليه‏.‏

ومن شعره‏:‏ المنسرح كم ساءني الدهر ثم سر فلم يدم لنفسي هذا ولا فرحا ألقاه بالصبر ثم يعركني تحت رحا من صروفه فرحا وفيها توفي الأمير آق سنقر بن عبد الله قسيم الدولة التركي‏.‏

كان شجاعًا عادلا منصفًا وكان الملوك السلجوقية يحترمونه ولم يكن له ولد غير زنكي‏.‏

وآق سنقر هذا هو جد الملك العادل نور الدين محمود المعروف بالشهيد‏.‏

ولما قتل آق سنقر انضم على ولده زنكي مماليك أبيه وفيها توفي أمير الجيوش بدر الجمالي الأرمني وزير مصر للمستنصر بل صاحب أمرها وعقدها وحلها‏.‏

كان أولا ولي الشام والسواحل للمستنصر ثم خالفه مدة وأقام بعكا إلى أن استدعاه المستنصر المذكور إلى مصر بعد أن اختل أمرها من الغلاء والفتن وفوض إليه أمور مصر والشام وجميع ممالكه فاستقامت الأمور بتدبيره وسكنت الفتن وصار الأمر كله له وليس للخليفة المستنصر معه سوى الاسم لا غير‏.‏

ومات قبل المستنصر بأشهر‏.‏

ولما مات بدر الجمالي أقام المستنصر ابنه أبا القاسم شاهنشاه ولقبه الأفضل فأحسن الأفضل السيرة في الرعية لكنه عظم في الدولة أضعاف مكانة أبيه‏.‏

وخلف بدر الجمالي أموالا كثيرة يضرب بها المثل‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وإصبعان‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏

خلافة المستعلي بالله على مصر المستعلي بالله خليفة مصر اسمه أحمد وكنيته أبو القاسم ابن المستنصر بالله معد ابن الظاهر بالله علي ابن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معد بن المنصور إسماعيل بن القائم محمد بن المهدي عبيد الله السادس من خلفاء مصر الفاطميين بني عبيد والتاسع ممن ولي من أجداده الخلافة بالمغرب‏.‏

بويع بالخلافة بعد موت أبيه المستنصر معد في يوم عيد الغدير يوم ثامن عشر ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومولده بالقاهرة في المحرم سنة سبع وستين وأربعمائة‏.‏

ولما ولي الخلافة كانت سنه يوم ذاك نيفت على عشرين سنة‏.‏

وقال ابن خلكان‏:‏ مولده لعشر ليال بقين من المحرم وذكر السنة‏.‏

وكان القائم بأمره الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي فإن المستنصر كان قد أجلس بعده ابنه أبا منصور نزارًا أكبر أولاده وجعل إليه ولاية العهد بالخلافة‏.‏

فلما مرض المستنصر أراد أخذ البيعة له فتقاعد الأفضل شاهنشاه ودافع المستنصر من يوم إلى يوم حتى مات المستنصر وكان ذلك كراهة من الأفضل في نزار ولد المستنصر‏.‏

وسببه أن نزارًا خرج ذات يوم في حياة أبيه المستنصر فإذا الأفضل راكب وقد دخل من أحد أبواب القصر فصاح به نزار المذكور‏:‏ انزل يا أرمني يا نجس‏!‏‏.‏

فحقدها عليه الأفضل وصار كل منهما يكره الآخر‏.‏

فاجتمع الأفضل بعد موت المستنصر بالأمراء والخواص وخوفهم من نزار وأشار عليهم بولاية أخيه الصغير أبي القاسم أحمد فرضوا بذلك ما خلا محمود بن مصال اللكي فإن نزارًا كان وعده بالوزارة والتقدمة على الجيوش مكان الأفضل‏.‏

فلما علم ابن مصال الحال أعلم نزارًا بذلك وبادر الأفضل بإخراج أبي القاسم أحمد هذا وبايعه ونعته بالمستعلي بالله وذلك بكرة يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة وأجلسه على سرير الخلافة وجلس الأفضل شاهنشاه على دكة الوزارة وحضر قاضي القضاة المؤيد بنصر الأنام علي بن نافع بن الكحال والشهود معه وأخذوا البيعة على مقدمي الدولة ورؤسائها وأعيانها‏.‏

ثم مضى الأفضل إلى إسماعيل وعبد الله ابني المستنصر وهما بالمسجد بالقصر والموكلون عليهما فقال لهما‏:‏ إن البيعة تمت لمولانا المستعلي بالله وهو يقرئكما السلام ويقول لكما‏:‏ تبايعان أم لا فقالا‏:‏ السمع والطاعة إن الله اختاره علينا وقاما وبايعاه‏.‏

فكتب الأفضل بذلك سجلا قرأه الشريف سناء الملك محمد بن محمد الحسيني الكاتب بديوان الإنشاء على الأمراء‏.‏

وأما أمر نزار فإنه بادر وخرج من وقته وأخذ معه أخاه عبد الله الذي بايع وابن مصال اللكي وتوجهوا إلى الإسكندرية وكان الوالي بها ناصر الدولة أفتكين التركي أحد مماليك أمير الجيوش بدر الجمالي أعني والد الأفضل هذا فعرفوه الحال ووعده نزار بالوزارة فطمع أفتكين في ذلك وبايع نزارًا المذكور وبايع أيضًا جميع أهل الإسكندرية ولقب المصطفى لدين الله‏.‏

ثم وقع لنزار هذا أمور وحروب مع الأفضل نذكر منها نبذة من أقوال جماعة من المؤرخين‏.‏

قال العلامة شمس الدين يوسف بن قز أوغلي في تاريخه مرآة الزمان - بعد ما ساق نسبه بنحو ما ذكرناه وأقل - قال‏:‏ وكان المتصرف في دولته الأفضل ابن أمير الجيوش يعني عن المستعلي‏.‏

قال‏:‏ وكان هرب أخوه نزار بن المستنصر إلى الإسكندرية وبها أفتكين مولى أبيه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا بخلاف ما ذكره غيره من أن أفتكين كان مولى لبدر الجمالي والد الأفضل شاهنشاه‏.‏

قال‏:‏ وزعم نزار أن أباه عهد إليه فقام له بالأمر أفتكين ولقبه ناصر الدولة‏.‏

وأخذ له البيعة على أهل البلد وساعده ابن عمار قاضي الإسكندرية‏.‏

فتوجه الأفضل إلى الإسكندرية وضايقها فخرج إليه أفتكين فهزمه وعاد الأفضل إلى القاهرة يعني مهزومًا فحشد وعاد إليها ونازلها وافتتحها عنوة وقتل أعيان أهلها واعتقل أفتكين وابن عمار‏.‏

فكتب ابن عمار إلى الأفضل ورقة من الحبس يقول فيها‏:‏ البسيط هل أنت منقذ شلوي من يدي زمن أضحى يقد أديمي قد منتهس دعوتك الدعوة الأولى وبي رمق وهذه دعوة والدهر مفترسي فلم تصل إليه الورقة حتى قتل‏.‏

فلما وقف عليها قال‏:‏ والله لو وقفت عليها قبل ذلك ما قتلته‏.‏

وكان ابن عمار المذكور من حسنات الدهر‏.‏

وقدم الأفضل بأفتكين ونزار إلى القاهرة وكان أفتكين يلعن المستعلي والأفضل ابن أمير الجيوش على المنابر فقتله المستعلي بيده وبنى على أخيه نزار حائطًا فهو تحته إلى الآن‏.‏

وكان للمستعلي وقال غيره‏:‏ ولما استهلت سنة ثمان وثمانين خرج الأفضل بعساكر مصر إلى الإسكندرية وهناك نزار وأفتكين فكانت بينهم حرب شديدة بظاهر الإسكندرية انكسر فيها الأفضل بمن معه ورجع إلى القاهرة منهزمًا فخرج نزار ونهب أكثر البلاد بالوجه البحري‏.‏

وأخذ الأفضل في التجهز لقتال نزار ودس إلى جماعة ممن كان مع نزار من العربان واستمالهم عنه ثم خرج بالعساكر ثانيًا إلى نحو الإسكندرية فكانت بينهم أيضًا وقعة بظاهر الإسكندرية انكسر فيها نزار بمن معه إلى داخل الإسكندرية فحاصرهم الأفضل حصارًا شديدًا إلى ذي القعدة‏.‏

فلما رأى ذلك ابن مصال جمع ماله وفر إلى الغرب‏.‏

وكان سبب فرار ابن مصال أنه رأى في منامه أنه راكب فرسًا وسار والأفضل ماش في ركابه فقال له المعبر‏:‏ الماشي على الأرض أملك لها فلما سمع ذلك فر‏.‏

ولما فر ابن مصال ضعفت قوى نزار وأفتكين وخافا وطلبا من الأفضل الأمان فأمنهما ودخل البلدة ثم قبض على نزار وأفتكين وبعث بهما إلى مصر وكان ذلك آخر العهد بنزار‏.‏

وكان مولد نزار في يوم الخميس العاشر من شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وأربعمائة‏.‏

وقيل‏:‏ إن الأفضل بنى لنزار حائطين وجعله بينهما إلى أن مات‏.‏

وأما أفتكين نائب الإسكندرية فإنه قتله بعد ذلك‏.‏

ولم يزل الأفضل يؤمن ابن مصال حتى حضر إليه بالقاهرة ولزم داره حتى رضي عنه الأفضل‏.‏

انتهى ذكر نزار وكيفية قتله‏.‏

وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي‏:‏ وفي أيامه وهنت دولتهم يعني المستعلي صاحب الترجمة‏.‏

قال‏:‏ وانقطعت دعوتهم من أكثر مدن الشام واستولى عليها الأتراك والفرنج على إنطاكية وحصروها ثمانية أشهر وأخذوها في سادس عشر رجب سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وأخذوا المعرة سنة اثنتين وتسعين ثم أخذوا القدس فيها أيضًا في شعبان واستولى الملاعين على كثير من مدن الساحل‏.‏

ولم يكن للمستعلي مع الأفضل ابن أمير الجيوش حكم‏.‏

وفي أيامه هرب أخوه نزار إلى الإسكندرية فأخذ له البيعة على أهل الثغر أفتكين وساعده قاضي الثغر ابن عمار وأقاموا على ذلك سنة‏.‏

فجاء الأفضل سنة ثمان وثمانين وحاصر الثغر وخرج إليه أفتكين فهزمه ثم نازلها ثانيًا وافتتحها عنوة وقتل جماعة وأتى القاهرة بنزار وأفتكين فذبح أفتكين صبرًا وبنى المستعلي على أخيه حائطًا فهو تحته إلى الآن‏:‏ انتهى كلام الذهبي قلت‏:‏ ومن حينئذ نذكه كيفية أخذ الفرنج للسواحل في أيام المستعلي هذا وهو كالشرح لمقالة الذهبي وغيره‏:‏ كان أول حركة الفرنج لأخذ السواحل وخروجهم إليها في سنة تسعين وأربعمائة فساروا إليها فأول ما أخذوا نيقية وهو أول بلد فتحوه وأخذوه من المسلمين‏.‏

ثم فتحوا حصون الدروب شيئًا بعد شيء ووصلوا إلى البارة وجبل السماق وفامية وكفر طاب ونواحيها‏.‏

وفي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة ساروا إلى إنطاكية ولم ينازلوها وجاءوا إلى المعرة فنصبوا عليها السلالم فنزلوا إليها فقتلوا من أهلها مائة ألف إنسان قاله أبو المظفر سبط ابن الجوزي قال‏:‏ وسبوا مثلها‏.‏

ثم دخلوا كفر طاب وفعلوا مثل ذلك وعادوا إلى إنطاكية وكان بها الأمير شعبان وقيل شقبان وقيل في اسمه غير ذلك - وكان على الفرنج صنجيل فحاصرها مدة فنافق رجل من إنطاكية يقال له فيروز وفتح لهم في الليل شباكًا فدخلوا منه ووضعوا السيف وهرب شعبان وترك أهله وأمواله وأولاده بها‏.‏

فلما بعد عن البلد ندم على ذلك فنزل عن فرسه فحثى للتراب على رأسه وبكى ولطم وتفرق عنه أصحابه وبقي وحده فمر به رجل أرمني حطاب فعرفه فقتله وحمل رأسه إلى صنجيل ملك الفرنج‏.‏

وقال أبو يعلى بن القلانسي‏:‏ في جمادى الأولى ورد الخبر بأن قومًا من أهل إنطاكية عملوا عليها وواطؤوا الفرنج على تسليمها إليهم لإساءة تقدمت من حاكم البلد في حقهم ومصادرته لهم ووجدوا الفرصة في برج من الأبراج التي للبلد مما يلي الجبل فبادرهم إياه وأصعدوا منه في السحر وصاحوا فانهزم ياغي سيان وخرج في خلق عظيم فلم يسلم منهم شخص فسقط الأمير عن فرسه عند معرة مصرين فحمله بعض أصحابه وأركبه فلم يثبت على ظهر الفرس وسقط ثانيًا فمات‏.‏

وأما إنطاكية فقتل منها وسبي من الرجال والنساء والأطفال مالا يدركه وكان أخذ المعرة في ذي الحجة بعد أخذ إنطاكية‏.‏

ولما وقع ذلك اجتمع ملوك الإسلام بالشام وهم رضوان صاحب حلب وأخوه دقماق وطغتكين وصاحب الموصل وسكمان بن أرتق صاحب ماردين وأرسلان شاه صاحب سنجار - ولم ينهض الأفضل بإخراج عساكر مصر‏.‏

وما أدري ما كان السبب في عدم إخراجه مع قدرته على المال والرجال - فاجتمع الجميع ونازلوا إنطاكية وضيقوا على الفرنج حتى أكلوا ورق الشجر‏.‏

وكان صنجيل مقدم الفرنج عنده دهاء ومكر فرتب مع راهب حيلة وقال‏:‏ اذهب فادفن هذه الحربة في مكان كذا ثم قل للفرنج بعد ذلك‏:‏ رأيت المسيح في منامي وهو يقول‏:‏ في المكان الفلاني حربة مدفونة فاطلبوها فإن وجدتموها فالظفر لكم وهي حربتي فصوموا ثلاثة أيام وصلوا وتصدقوا ثم قام وهم معه إلى المكان ففتشوه فظهرت الحربة فصاحوا وصاموا وتصدقوا وخرجوا إلى المسلمين وقاتلوهم حتى دفعوهم عن البلد فثبت جماعة من المسلمين فقتلوا عن آخرهم رحمهم الله تعالى‏.‏

والعجب أن الفرنج لما خرجوا إلى المسلمين كانوا في غاية الضعف من الجوع وعدم القوت حتى إنهم أكلوا الميتة وكانت عساكر الإسلام في غاية القوة والكثرة فكسروا المسلمين وفرقوا جموعهم وانكسر أصحاب الجرد السوابق ووقع السيف في المجاهدين والمطوعين‏.‏

فكتب دقماق ورضوان والأمراء إلى الخليفة أعني المستظهر العباسي يستنصرونه فأخرج الخليفة أبا نصر بن الموصلايا إلى السلطان وأما أخذ بيت المقدس فكان في يوم الجمعة ثالث عشرين شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وهو أن الفرنج ساروا من إنطاكية ومقدم الفرنج كندهري في ألف ألف منهم خمسمائة ألف مقاتل فارس والباقون رخالة وفعلة وأرباب آلات من مجانيق وغيرها وجعلوا طريقهم على الساحل‏.‏

وكان بالقدس افتخار الدولة من قبل المستعلي خليفة مصر صاحب الترجمة فأقاموا يقاتلون أربعين يومًا وعملوا برجين مطفين على السور أحدهما بباب صهيون والآخر بباب العمود وباب الأسباط وهو برج الزاوية - ومنه فتحها السلطان صلاح الدين بن أيوب على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى - فأحرق المسلمون البرج الذي كان بباب صهيون وقتلوا من فيه‏.‏

وأما الآخر فزحفوا به حتى ألصقوه بالسور وحكموا به على البلد وكشفوا من كان عليه من المسلمين ثم رموا بالمجانيق والسهام رمية رجل واحد فانهزم المسلمون فنزلوا إلى البلد وهرب الناس إلى الصخرة والأقصى واجتمعوا بها فهجموا عليهم وقتلوا في الحرم مائة ألف وسبوا مثلهم وقتلوا الشيوخ والعجائز وسبوا النساء وأخذوا من الصخرة والأقصى سبعين قنديلا منها عشرون ذهبًا في كل قنديل ألف مثقال ومنها خمسون فضة في كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم بالشامي وأخذوا تنورًا من فضة زنته أربعون رطلا بالشامي وأخذوا من الأموال ما لا يحصى‏.‏

وكان بيت المقدس منه افتتحه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في سنة ست عشرة من الهجرة لم يزل بأيدي المسلمين إلى هذه السنة‏.‏

هذا كله وعسكر مصر لم يحضر غير أن الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي صاحب أمر مصر لما بلغه أن الفرنج ضايقوا بيت المقدس خرج في عشرين ألفًا من عساكر مصر وجد في السير فوصل إلى القدس يوم ثاني فتحه ولم يعلم بذلك‏.‏

فقصده الفرنج وقاتلوه فلم يثبت لهم ودخل عسقلان بعد أن قتل من أصحابه عدد كثير فأحرق الفرنج ما حول عسقلان وقطعوا أشجارها ثم عادوا إلى القدس‏.‏

ثم عاد الأفضل إلى مصر بعد أمور وقعت له مع الفرنج‏.‏

واستمر بيت المقدس مع الفرنج فلا قوة إلا بالله‏.‏

وقال ابن القلانسي‏:‏ إن أخذ المعرة كان في هذه السنة أيضًا لأنه كان قبل أخذ بيت المقدس‏.‏

قال‏:‏ وزحف الفرنج في محرم هذه السنة إلى سور المعرة من الناحية الشرقية والشمالية وأسندوا البرج إلى سورها فكان أعلى منه‏.‏

ولم يزل الحرب عليها إلى وقت المغرب من اليوم الرابع عشر من المحرم وصعدوا السور وانكشف أهل البلد بعد أن ترددت إليهم رسل الفرنج وأعطوهم الأمان على نفوسهم وأموالهم وألا يدخلوا إليهم بل يبعثوا إليهم شحنة فمنع من ذلك الخلف بين أهلها فملكت الفرنج البلد بعد المغرب بعد أن قتل من الفريقين خلق كثير ثم أعطوهم الأمان‏.‏

فلما ملكوها غدروا بهم وفعلوا تلك الأفعال القبيحة وأقاموا عليها إلى أن رحلوا عنها في آخر شهر رجب إلى القدس‏.‏

وانجفل الناس بين أيديهم فجاءوا إلى الرملة فأخذوها عند إدراك الغلة ثم انتهوا إلى القدس‏.‏

وذكر في أمر القدس نحوًا مما قلناه غير أنه زاد فقال‏:‏ ولما بلغهم يعني الفرنج خروج الأفضل من مصر جدوا في القتال ونزلوا من السور وقتلوا خلقًا كثيرًا وجمعوا اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم وهدموا المشاهد وقبر الخليل - عليه السلام - وتسلموا محراب داود بالأمان‏.‏

ووصل الأفضل بالعساكر وقد فات الأمر فنزل عسقلان في يوم رابع عشر شهر رمضان ينتظر الأسطول في البحر والعرب فنهض إليه مقدم الفرنج في خلق عظيم فانهزم العسكر المصري إلى ناحية عسقلان ودخل الأفضل عسقلان ولعبت سيوف الفرنج في العسكر والرجال والمطوعة وأهل البلد وكانوا زهاء عن عشرة آلاف نفس ومضى الأفضل‏.‏

وقرر الفرنج على أهل البلد عشرين ألف دينار تحمل إليهم وشرعوا في جبايتها من أهل البلد فاختلف المقدمون فرحلوا ولم يقبضوا من المال شيئًا‏.‏

ثم قال‏:‏ وحكي أنه قتل من أهل عسقلان من شهودها وتجارها وأحداثها سوى أجنادها ألفان وسبعمائة نفس‏.‏

ولما تمت هذه الحادثة خرج المستنفرون من دمشق مع قاضيها زين الدين أبي سعد الهروي فوصلوا بغداد وحضروا في الديوان وقطعوا شعورهم واستغاثوا وبكوا وقام القاضي في الديوان وأورد كلامًا أبكى الحاضرين وندب من الديوان من يمضي إلى العسكر السلطاني ويعرفهم بهذه المصيبة فوقع التقاعد لأمر يريده الله‏.‏

فقال القاضي الهروي - وقيل‏:‏ هي لأبي المظفر الأبيوردي - القصيدة التي أولها‏:‏ الطويل‏.‏

مزجنا دماء بالدموع السواجم فلم يبق منا عرضة للمراجم ومنها‏:‏ وكيف تنام العين ملء جفونها على هفوات أيقظت كل نائم وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ظهور المذاكي أو بطون القشاعم ومنها‏:‏ وكاد لهن المستجن بطيبة ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم أرى أمتي لا يسرعون إلى العدا رماحهم والدين واهي الدعائم ومنها‏:‏ وليتهم إذ لم يذودوا حميمة عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم وإذ زهدوا في الأجر إذ حمي الوغى فهلا أتوه ركبة في الغنائم وقال آخر‏:‏ الوافر أحل الكفر بالإسلام ضيمًا يطول عليه للدين النحيب وكم من مسلم أمسى سليبًا ومسلمة لها حرم سليب وكم من مسجد جعلوه ديرًا على محرابه نصب الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوق وتحريق المصاطف فيه طيب أمور لو تأملهن طفل لطفل في عوارضه المشيب أتسبى المسلمات بكل ثغر وعيش المسلمين إذًا يطيب أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيب فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا وقال الناس في هذا المعنى عدة مراث‏.‏

والمقصود أن القاضي ورفقته عادوا من بغداد إلى الشام بغير نجدة‏.‏

ولا قوة إلا بالله‏.‏

ثم إن الأفضل ابن أمير الجيوش جهز من مصر جيشًا كثيفًا وعليه سعد الدولة القواسي في سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة فخرج سعد الدولة المذكور من مصر بعسكره فالتقى مع الفرنج بعسقلان ووقف سعد الدولة في القلب فقاتل قتالا شديدًا فكبا به فرسه فقتل‏.‏

وثبت المسلمون بعد قتله وحملوا على الفرنج فهزموهم إلى قيسارية‏.‏

فيقال‏:‏ إنهم قتلوا من الفرنج ثلاثمائة ألف ولم تقتل من المسلمين سوى مقدم عسكرهم سعد الدولة القواسي المذكور ونفر يسير‏.‏

قاله صاحب مرآة الزمان‏.‏

وقال الذهبي في تاريخه‏:‏ هذه مجازفة عظيمة يعني كونه قال قتل ثلاثمائة ألف من الفرنج‏.‏

انتهى‏.‏

قلت‏:‏ ومن يومئذ بدأت الفرنج في أخذ السواحل حتى استولوا على الساحل الشامي بأجمعه إلى أن استولت الدولة الأيوبية والتركية واسترجعوها شيئًا بعد شيء حسب ما يأتي ذكره إن شاء الله في هذا الكتاب‏.‏

ومات المستعلي صاحب الترجمة في يوم الثلاثاء تاسع صفر سنة خمس وتسعين وأربعمائة وقيل‏:‏ في ثالث عشر صفر والأول أشهر‏.‏

ومات وله سبع وعشرون سنة وكانت خلافته سبع سنين وشهرين وأيامًا‏.‏

وتولى الخلافة بعده ابنه الآمر بأحكام الله منصور‏.‏

وكان المتصرف في دولته وزيره الأفضل سيف الإسلام شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي‏.‏

فانتظمت أحوال مصر بتدبيره واشتغل بها عن السواحل الشامية حتى استولت الفرنج على غالبها وندم على ذلك حين لا ينفع الندم‏.‏

وكان المستعلي حسن الطريقة في الرعية جميل السيرة في كافة الأجناد ملازمًا لقصره كعادة أبيه مكتفيًا بالأفضل فيما يريده إلا أنه كان مع تقاعده عن الجهاد وتهاونه في أخذ البلاد متغاليًا في الرفض والتشيع كان يقع منه الأمور الشنيعة في مأتم عاشوراء ويبالغ في النوح والمأتم ويأمر الناس بلبس المسوح وغلق الحوانيت واللطم والبكاء زيادة عما كان يفعله آباؤه مع أن الجميع رافضة ولكن التقاوت نوع آخر‏.‏

وأما الذي كان يفعله آباؤه وأجداده من النوح في يوم عاشوراء والحزن وترتيبه فإذا كان يوم العاشر من المحرم احتجب الخليفة عن الناس فإذا علا النهار ركب قاضي القضاة والشهود وقد غيروا زيهم ولبسوا قماش الحزن ثم صاروا إلى المشهد الحسيني بالقاهرة - وكان قبل ذلك يعمل المأتم بالجامع الأزهر - فإذا جلسوا فيه بمن معهم من الأمراء والأعيان وقراء الحضرة والمتصدرين في الجوامع جاء الوزير فجلس صدرًا والقاضي وداعي الدعاة من جانبيه والقراء يقرؤون نوبة بنوبة ثم ينشد قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة أشعارًا يرثون بها الحسن والحسين وأهل البيت وتصيح الناس بالضجيج والبكاء والعويل - فإن كان الوزير رافضيًا على مذهب القوم تغالوا في ذلك وأمعنوا وإن كان الوزير سنيًا اقتصروا - ولا يزالون كذلك حتى تمضي ثلاث ساعات فيستدعون إلى القصر عند الخليفة بنقباء الرسائل فيركب الوزير وهو بمنديل صغير إلى داره ويدخل قاضي القضاة والداعي ومن معهما إلى باب الذهب أحد أبواب القصر فيجدون الدهاليز قد فرشت مساطبها بالحصر والبسط وينصب في الأماكن الخالية الدكك لتلحق بالمساطب وتفرش ويجدون صاحب الباب جالسًا هناك فيجلس القاضي والداعي إلى جانبه والناس على اختلاف طبقاتهم فيقرأ القراء وينشد المنشدون أيضًا‏.‏

ثم يفرش وسط القاعة بالحصر المقلوبة ليس على وجوهها وإنما تخالف مفارشها ثم تفرش عليها سماط الحزن مقدار ألف زبدية من العدس والملوحات والمخللات والأجبان والألبان الساذجة والأعسال النحل والفطير والخبز المغير لونه بالقصد لأجل الحزن‏.‏

فإذا قرب الظهر وقف صاحب الباب وصاحب المائدة يعني الحاجب والمشد وأدخل الناس للأكل من السماط فيدخل القاضي والداعي ويجلس صاحب الباب ببابه ومن الناس من لا يدخل من شدة الحزن فلا يلزم أحد بالدخول‏.‏

فإذا فرغ القوم انفصلوا إلى مكانهم ركبانًا بذلك الزي الذي ظهروا فيه من قماش الحزن‏.‏

وطاف النواح بالقاهرة في ذلك اليوم وأغلق البياعون حوانيتهم إلى بعد العصر والنوح قائم بجميع شوارع القاهرة وأزقتها‏.‏

فإذا فات العصر يفتح الناس دكاكينهم ويتصرفون في بيعهم وشرائهم فكان ذلك دأب الخلفاء الفاطميين من أولهم المعز لدين الله معد إلى آخرهم العاضد عبد الله‏.‏

انتهى ترجمة المستعلي‏.‏

ويأتي بعض أخباره أيضًا في السنين المتعلقة به على سبيل الاختصار كما هو عادة هذا الكتاب‏.‏